لَكِنّي اليَوْمَ سأُخْبِرُكُم القِصّةَ التي معَ الأسفِ قد أَروِيها لأولادِي فاقرَأُوا وَتمَعَّنُوا عَلّكُم تمنَعُونَنِي من قِرَاءَتِها مرةً أُخْرَى.
يُحكى أَنهُ في بِلادٍ غَيرِ بَعِيدَه بَل هي مُحيطَةٌ بِنا ورُبّما نَعيشُ فيها، ولدٌ لم يَلعَبْ بأَلْعَابِه بل بـ «فَرَاغَاتِ» الرَّصَاصِ المـُتَناثِرِ في شَوارعِ مَدينَتِه.
يُحكى أَنّهُ لَم يَذُقْ طَعمَ النّومِ وَلَم يُغْمَض لهُ جَفْنٌ مُنذُ أَكثَرَ مِن عِشْرِينَ يَوْمًا.
يُحكى أَنهُ لَم يَعُد يَسْمَع سِوى صَوتَ مَعِدَتِهِ الفارِغَه، حَتى أصواتُ القذائفِ اعتادَها إِذ صارَتْ جُزءًا مِن حَياتِهِ اليَومِيَّه،
لَكن مَا لَم يَعْتَدْهُ هُوَ صَوتُ مَعِدَتِه التي لَم تَدخُلْها كَسْرَةُ خُبزٍ مُنذُ ؟؟؟؟؟ آهٍ لم يَعُدِ الوَقتُ مُهِمًا بِالنِّسبَةِ لَه، المهِمُ عِندَهُ أَن يَأكُل.
ويُحكى أَنهُ كانَت هُناكَ فَتاةٌ بِعُيونٍ جميلَةٍ بَرّاقَه،
لَكِنّها غَارَت في تَيْنِك التّجوِيفَتَين فَلا يُوجَدُ لَحمٌ بَينَ الِجلدِ والعَظمِ لِيُمسِكَهُما.
يُحكى أَنّ أَنفَها اعتَادَ رَائِحَةَ العُفُونَةِ والقاذُورَاتِ والجُثَثِ بَعدَ أَن نَسِيَ رَائِحَةَ الياسَمِينَةِ المزرُوعَةِ في «أَرضِ الديارِ» في مَنزِلِهم.
يُحكى أَنّهُ كانَ هذا الوَلَدُ وَهذِهِ الفَتاةُ يَعيشَانِ في بِلادٍ عَرَبِيّه، انتَشَرَ فِيها التَطَرُفُ والإرهابُ المذمُومُ الأسودُ باسمِ الحُرّيّه، تَغَلغَلَ فِيهَا أَشخَاصٌ يَدَّعُونَ الإسلام، والإسلاُم مِنهُم بَرَاء.
يُحكى أَنّهُ حَصَلُوا عَلى وَرَقَةٍ سُمِّيَتْ بالهَوِيّةِ العَرَبِيّه لَكِنّها بَقِيَت عَلى الأَورَاق، كَما بَقِيَت لُغَتُنا وَحَضَارَتُنا وَتَاريخُنا فِي كُتُبٍ وَلَم تُتَرجَمْ وَاقِعًا مَلْمُوسًا.
هَذَا لِلأسَفِ الشّدِيدِ غَالِبُ وَاقِعِ حَالِنا هَذِهِ الأيّام، نَتَفَاخَرُ في خِطابَاتِنا بِحَضَارَتِنا العَرِيقَه وتَاريخِنا المـُشرِقِ وَلُغَتِنا العَظِيمَه، لَكِن أَينَ نَحنُ مِنهَا. حَضارَتُنا دُفِنَت تَحتَ التُراب، فَصارَت أَطلالًا نَقِفُ عَلَيها فِي كُلِّ مَوقِفٍ ومُناسَبَه، تَارِيخُنا عَلاهُ الغُبارُ في مَكتَباتٍ إمّا أُحرِقَت وَإمّا أُغلِقَت لِعَدَمِ التّموِيل، لُغَتُنا أَصبَحَت لَهْجَاتٍ مُتَكَّسِرَةً مُتَوَزِّعَةً بينَ الأَقْطَار. نَتَفَاخَرُ بِأَمْجَادٍ ومُلُوكٍ وسَلاطِين عَدَلُوا في حُكْمِهِم، نَذْكُرُهُم في رِوَايَاتِنا، لكنَّ غالِبَنا لم يَتَشَبَّهْ بهم. نُتَابِعُ سَيْرَهم في مُسَلْسَلاتٍ رَمَضَانِيَّه فَيَتَوَلَّدُ عِنْدَنا شُعُورُ الفَخْرِ والاعْتِزَاز، ولم نَأْبَهْ لأَشْخَاصٍ يَبْعُدُونَ عَنَّا بِضْعَ كِيلُومِتْراَتٍ يَمُوتُونَ جُوعًا وعَطَشًا ومَرَضًا.
كُلُّ ما أَقُولُهُ لا ولَنْ يَأْبَهَ له هَؤُلاءِ الأَطْفَال، إِنَّهُم لا يَأْبَهُونَ مَنِ السَبَبِ في وَضْعِهِمْ ولا يَأْبَهُونَ مَنْ سَيَحُلُّ لهم مُشْكِلَتَهُم ولا يَأْبَهُون لِمَصَالِحِ الدُّوَلِ الـمُسَمَاةِ «عُظْمَى» هم فَقَط يَعُدُّونَ السَاعَاتِ والدَّقَائِقِ والثواني بانْتِظَارِ اللَّحْظَةِ التي سَيَدْخُلُ فِيهَا إلى أَجْوَافِهِم كَسْرَةُ الخُبْزِ الغَالِيَة. حقًا إِنَّهُ لَمَشْهَدٌ مُؤْلمِ
صَدِّقُوني، قد يُحْكَى عَنَّا ذاتَ يومٍ أَنَّنَا الأُمَّةُ التي تَرَكَتْ أَطْفَالَها جِيَاعًا، ومَاتَ الطِّفْلُ
في أيَّامِها لأَنَّهُ لم يَجِدْ حَلِيبًا يَشْرَبُه، قد يُحْكَى عَنَّا ذاتَ يومٍ أَنَّنَا الأُمَّةُ الصَّامِتَة، قد يُحْكَى عَنَّا ذاتَ يومٍ أَنَّنَا قَوْمٌ ضَرَبْنا أَرْقَامًا قِيَاسِيَّةً فِي الخِطاباتِ والشِّعاراتِ والاسْتِنْكاراتِ والإِعْرابِ عَنْ قَلَقِنَا تِجَاهَ مَا يَحْصُلُ في دُوَلِنَا، لَكِنَّنَا لم نُحَرِّكْ سَاكِنًا.
هَذَا هُوَ حَاضِرُنا واللهُ أَعْلَمْ، هَذَا مَا قد يَسْطُرُهُ التَّارِيخُ في صَفَحَاتِنا.
منقول من مجلة منار الهدى العدد 213
رابط الموضوع
أضف تعليق:
0 comments:
إرسال تعليق