بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله
درس عن تربية الأولاد
أما بعد، يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ } الآية 6 من سورة التحريم.
وجاء في الحديث المتفق عليه من طريق أبي هريرة رضي الله عنه:
"كل مولود يُولَد على الفطرة فأبَوَاهُ يُهَوِّدانِهِ أو يُنَصِّرانِهِ أويُمَجِّسَانِهِ". 1
إخوة الإيمان، إنّ تربية الأولاد من أهمّ الأمور وأوكدها، فالولدُ أمانةٌ عند والِدَيْهِ وقلبُه جوهرةٌ نفيسةٌ خاليةٌ عن كلّ نقش وهو قابِلٌ لكل ما نُقِشَ، ومائِلٌ إلى كل ما يُمال به إليه فإن عوّد الخير وعُلّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلّم له ومؤدب وإن عوّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيّم عليه. وصيانة الأولاد تكون بتأديبهم وتهذيبهم وتعليمهم محاسن الأخلاق وبحفظهم من قرناء السوء، وما أكثرهم في هذه الأيام.
ولا يعوّدهم التنعم ولا يحبّب إليهم الزينة وأسباب الرفاهية فيضيّع عمره في طلبها إذا كبر. وينبغي مراقبتهم من أول أمرهم فلا يستعمل في حضانة الولد وإرضاعه إلا أمراة صالحة متديّنة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا وقع عليه نشؤ الصبي انعجنت طينته من الخبث فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبث، ثم يراقب طبعه فإن كان يحتشم ويستحي من شىء دون شىء ويترك بعض الأفعال فهذه بشارة تدّل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ. فينبغي أن يستعان على تأديبه بحيائه.
وأول ما يغلب على الولد بعد سنتين أو ثلاث سنوات شرَهُ الطّعام فينبغي أن يؤدب فيه، مثاله أن لا يأخذ الطّعامَ إلا بيمينه، وأن يقول عليه "بسم الله" عند تناوله، وأن يأكل مما يليه، وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره، وأن لا يحدق النظر إليه ولا إلى من يأكل، وأن لا يُسرِعَ في الأكل وأن يجيد المضغ، وأن لا يوالي بين اللّقم ولا يلطخ يده وثوبه، وأن يعوّد الخبز والماء في بعض الأحيان حتّى لا يصير يرى اللحم حتما، ويقبّح عنده كثرة الأكل، ويمدح عنده الصبي المتأدّب القليلُ الأكل، ويحبّب إليه قلة المبالاة بالطعام والقناعة بالقليل منه، ويحبّب إليه من الثياب الأبيض.
ويحفظُ عن الصبية الذين عوّدوا التنعمَ والرفاهية ولُبسَ الثيابَ الفاخرةِ وعن مخالطة كلّ من يُسمعُهُ ما يُرغّبه فيه.
وليعلم أنّ الصبي الذي يُهمَل في ابتداء نشوئه يخرج في الأغلب رديءَ الأخلاق كذّابا حسودًا لحوحًا ذا فُضول وضحك ومجانة، ويحفظُ عن جميع ذلك بحسن التأديب.
ثم لما يبلغ سنّ التمييز يُشغلُ بتعلم علم الدّين. وأوّل ما يُعلّمُ تنزيهَ الله عن مشابهة المخلوقين وما يتبعُ ذلك من الاعتقاديات، ثم أحكامَ الطّهارة والصلاة ويؤمرُ بها وبالصّوم. ثم بعدُ ما يحرم على البطن واللسان واليد والرجل والعين والقلب والبدن ويُخوّف منها. ولا يُقال ما يقوله بعض الجهلة من الناس (ما يزال صغيرا لا يعي ما تعطونه إياه) فهؤلاء يقال لهم ما قاله الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" بعد أن ذكرَ مسائل الاعتقاديات: {واعلم أنّ ما ذكرناه فينبغي أن يقدّم إلى الصبي في أول نشوئه فيحفظه حفظًا ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئا فشيئا}ا.هـ.
ثم يعلّم القرءان وأحاديث الأخيار وحكايات الأبرار وأحوالهم، لينغرس في نفسه حبُّ الصّالحين. ثم لما يظهر منه الخلق الجميل والفعل المحمودُ فينبغي أن يُكرم عليه ويجازى عليه بما يفرحُ به. فإن خالف مرّة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يُهتك ستره ولا سيّما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه فإنّ إظهار ذلك عليه ربما يُفيده حسارة حتّى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانية فينبغي أن يُعاتب ويقالَ له: إيّاك أن تعود لمثل هذا ولا تكثر عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة ويُسقط وقع الكلام في قلبه، وليكن الأبُ حافظا هيبة الكلام معه، والأم تخوّفه به. وينبغي أن يُمنع عن النوم نهارًا فإنه يورث الكسل. ويُمنعَ الفُرش الناعمة واللينة حتى تتصلب أعضاؤه ويعوّد الخشونة في المفرش والملبس والمطعم. وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أيّ الناس أفضل؟ قال:" من قلّ مطعمه وضحكه".
ويكون له في بعض النهار الحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل. ويعوّدُ أن لا يُسرعَ في المشي ولا يفتخر على أقرانه بشىء مما يملكه والداه. ويُعلّمُ أنّ الرّفعة في الإعطاء لا في الأخذ، ويُقبّحُ إليه حبّ الذهب والفضة. ويعلّمُ كيفية الجلوس بأن لا يضع رجلا على رجل ولا يستدبر غيره، ولا يتثاءب بحضرة غيره، ويُمنع من كثرة الكلام ويُبينُ له أن ذلك يدل على الوقاحة. ويمنع اليمين رأسًا صادقًا كان أوكاذبًا حتى لا يعتاد ذلك في الصغر ويمنع أن يبتدئ الكلامَ ولا يتكلّم إلا جوابًا وبقدر السّؤال ويُحسن الاستماع لمن يتكلم معه ممن هو أكبر منه. وأن يقوم لمن فوقه ويوسّع له المكان. ويمنعُ من لغو الكلام وفُحشه والسّب ومن مخالطة من يجري على لسانه شىء من ذلك، فإنّ ذلك يسري غالبًا من قرناء السّوء. والأصل في التأديب الحفظُ من قُرناء السّوء وينبغي إذا ضُربَ أن لا يُكثر من الصّراخ وبعد الدرس يُؤذن له باللعب لعبًا جميلا بحيث لا يتعب في اللعب.
ويعلّمُ طاعةَ والدَيه ومعلّمِه ومؤدّبِه وأنّ الموت يقطعُ نعيم الدنيا، فالدنيا هي دار ممر لا دار مقرّ وأما الآخرة فهي دارُ المقرّ، وأن الموت منتظرٌ في كل ساعة، وأن الكيّس العاقل من تزود من الدنيا إلى الآخرة.
فإذا كان النشوء صالحًا كان هذا الكلام عند البلوغ واقعًا مؤثرًا ناجعًا يثبت في قلبه كما يثبتُ النّقشُ في الحجر. وإن وقع النُشوء بخلاف ذلك حتى ألِفَ الصّبي اللعب والفُحشَ والوقاحَة وشَرَهَ الطعامِ واللباس والتّزيّنَ والتّفاخرَ نبا قلبه عن قبول الحقّ نبوة الحائط عن التراب اليابس. فأوائل الأمور هي التي ينبغي أن تُراعى فإنّ الصبي بجوهره خلقٌ قابلٌ للخير والشر وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين.
قال سهل بُن عبد الله التُستري الوليّ العارف بالله: "كنتُ وأنا ابنُ ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظرُ إلى صلاة خالي محمدِ بن سوار، فقال لي يوما: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ فقال: قل بقلبك عند تقلّبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرّك به لسانك{الله معي2، الله ناظر إليّ، الله شاهد} فقلت ذلك ليال، ثمّ أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلته فوقع في قلبي حلاوته، فلمّا كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علّمتك ودُم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة. فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سرّي. ثم قال لي خالي يوما: يا سهلُ من كان الله معه وناظرًا إليه وعالما به، أيعصِه؟ إيّاك والمعصية. ثم بعثوا بي إلى الكُتّاب فتعلّمت القرءان وحفظته وأنا ابنُ ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم الدّهر وقوتي من خبز الشّعير بغير الملح ولا أُدمٍ3 ثم خرجتُ أسيحُ في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تُستر وكنت أقوم الليل كلّه ما شاء الله تعالى. وقال الامام أحمد بنُ حنبل: فما رأيته أكل الملح حتّى لقِيَ الله تعالى4.
انظروا إلى حال هذا الإنسان الذي كان ذا رِفعة ودرجة عند الله تعالى، وهكذا يكون حال من نشأ النشء الصّالح، والتربية الشّرعية الصحيحة، فاسعوا إلى تربية أولادكم على ما يُرضي الله تبارك وتعالى، وتذكّروا قول النّبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابنُ ءادم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، وعلم يُنتفع به وولد صالح يدعو له".
وهذا الأخير في الأغلب لا يكون بدون عملٍ وجهدٍ من الوالدين، فلا يتذرعُ الواحد منّا بالانشغال وكثرة الهموم والبلاء والمصائب، لأن تربية الأولاد أحقّ بأن يُفرّغ لها الوالدان الجهدَ والوقتَ المطلوب.
رزقنا الله وإياكم الذّرية الصّالحة، والتوفيق في النّية والقول والعمل.
[1] أي عالِـمٌ بي.
[2] والأُدمُ ما يؤكل مع الخبز.
[3] أي حتى مات.
وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق:
0 comments:
إرسال تعليق